ترجمة: الدكتور عمر مكاوي
منذ سنوات قليلة ، كانت هناك شركة لندنية تجارية للنشر تعمل تحت اسم : هنري وشركاه ، وكانت سياستها في العمل، سياسة متهورة تتلخص في القيام بمشروع عجيب هو أن تدعو أفرادا من جمهور القراء ممن يصعب ارضاؤهم ليشتركوا بمبلغ سنوي متساو تقريبا ، في دفع ايجار دار في ميدان جروزفنر ، وبهدف اصدار صحيفة يتولي كتابتها كلها من أولها الى آخرها عبقري من العباقرة ، وتوزع عليهم مرتين في الاسبوع وعلي مائدة الافطار . ولم يخطر لهم ان يكلفوا ليدي راندولف تشرشل{1} بالقيام بتحريرها ولكهنم دعوني أنا لكتابة العدد الاول . ووعدتهم ولكني لم أنهض قط لتحقيق الموعد وفي تلك الاثناء أخذت الشركة تتسلي باصدار طبعة انجليزية لمؤلفات فردريك نيتشه آملة أن يكون ذلك أكثر ما في جعبتهم من المشروعات طيشا وتهورا بعد مشروع الصحيفة . ولم أكن أنا شخصيا أصدق وجود أشخاص باسم هنري وشركاه فلم تكن الشركة الا تجسيدا حيا للمستر جون.ب.جرين ذلك الرجل الجسور المحب للمخاطرة والذي أسس " المسرح المستقل " وأخذ لندن علي غرة عندما أحدث فيها انفجار مدويا بعرض مسرحية "الاشباح" لابسن . ولم يستطيع الا بصعوبة أن يعثر علي من هو أفضل من نيتشه ليحدث في لندن انفجارا مماثلايكون له نفس الوقع . وظهر من ترجمة اعمال نيتشه جزءان ، قبل ان تدفع الشركة ثمن تهورها ، ولم يكن لها في الامر حيلة ، بتصفية حساباتها تصفية نظيفة شريفة ، وبيع جميع ممتلكاتها ومخلفاتها ، والاختفاء من دنيا الناشرين .
ومما يستلفت النظر ، أن يقدر للمشروعين الطوبويين اللذين قام بهما هنري وشركاه ، أن يعيشا بعد وفاة أصحابهما الذين دفنت مع عظامهم مشروعات تجارية أخري كانت أقرب الي النجاح من وجهة النظر العلمية . فصحيفتهم الدورية التي كان ثمنها مرتفعا بصورة وقحة تدمغ المشترك فيها بوصمة الثقافة الارستقراطية ـ علي وشك الصدور الآن . وأما ترجمة أعمال نيتشه فقد واصلت طريقها الثوري الانقلابي علي يد مستر آنوين المحترم .
ان نيتشه هو محامي الشيطان ، في روب المحامي العصري . وفي الزمن الماضي عندما كانت تثار قضية اثبات صفة القداسة علي أحد الاولياء ، كانوا يسمحون للشيطان بأن يوكل عنه محاميا يتولي الدفاع عن حقوقه في روح ذلك الولي . وبطبيعة الحال لم يدر في خلد أي انسان أن ينهض مدافعا عن حقوق الشيطان واعتباره أحد الموجهين والقادة للجنس البشري وان كان قد أسيء فهمه كثيرا فضلا عن تمتعه بالاصالة والاستقلال في الفكر . واستمر الحال مع ذلك حتي القرن التاسع عشر عندما تجاسر وليم بليك {2} فعبر الحاجز الى الناحية الاخري ـ والف حزبا للشيطان . ومن حسن حظه أنه كان شاعرا ومن ثم اعتبر مجنونا مشبعا بالتناقض بدلا من أن يعتبر زنديقا وكافرا. وحقق الحزب تقدما طفيفا في فترة طويلة نسبيا ، لان البلاد كانت في ذلك الوقت منهمكة في عرض دينها علي النار المطهرة في بوتقة النقد التي فاحت منها أخيرا رائحة عناصر وخامات أفريقية بدائية . غير أن هذا النقد المطهر بالغ في تمجيد الواجب والاخلاق والقانون وحب الغير ، و وضعها في مرتبة تفوق مرتبة الايمان الدينى . وأقامت البلاد جمعيات أخلاقية وتولتها بالرعاية تاركة الشيطان صديقي العجوز المسكين (فقد كنت أنا أيضا مولودا شيطانيا) في حالة أسوا مما كان فيها في أي وقت . ومصي مستر سوينبورن {3}يشرح بليك ويفسره . بل تمادي الى أن هتف ينادي الشيطان بقوله : "فلتهبط علينا من عليائك ! ولتخلصنا من الفضيلة ! " غير أن ايماءات بوتني {4} الورعة اثرت عليه وعادت به الى الصف ، وهو الان رجل محترم تماما يخشي شكسبير كما يخشي الله.
وأطلق مارك توين{5} يضع شرارات شيطانية في سماء الادب ، لم يكد ينتهي من اطلاقها حتي سقط صريع المناخ الامريكي الكاسح ، الذي تسود فيه قيم الفروسية والواجب والدماثة أي قيم نبلاء الاقطاع. ثم هبت في باريس نفحة شيطانية يائسة مزيفة تنهض علي عقيدة دينية جامدة تقرر أن أمير الظلام (الشيطان) ليس جنتلمانا ، مما زعزع الثقة في عبادة ابن الصباح (الشيطان ايضا) عبادة صادقة . وبدت المسألة كما لو كان كل شيء قد ضاع عندما عثرت القضية علي ابن درامي مخلص لها كل الاخلاص في شخص ابسن الذي كا أول امام حقيقي أمسك بتلابيب القيم التقليدية قيم الواجب وانكار الذات والمثالية والتضحية ... الى آخر عناصر المؤامرة الموجهة ضد الشيطان ، وجرها جميعا الى ساحة المحاكمة.
وما اكثر الذين وضعتهم هذه المؤامرة من المحامين الممتازين المدافعين عن الشيطان ، موضع الاتهام والتلبس بالجريمة . فقد انتشر زعم مخجل وشائن ، يزعم أن للرجل الصالح أن يفعل أي شيء يراه صوابا (والصواب في هذه الحالة معناه بالطبع أي شيء يحبه الرجل الصالح) بدون أي اعتبار لمصالح الاشرار والفاسدين اي مصالح المجتمع بصفة عامة . وما أن ظهر ابسن حتي ولي هذا الزعم مدبرا ، ثم حوصر وألقي القبض عليه ووضع في قفص الاتهام وارغم علي أن يدافع عن نفسه ، وبهذا ـ أي في نهاية المطاف ـ أصبح لحزب الشيطان نفوذ وسلطان.
وفي أثر الكاتب الدرامي جاء الفيلسوف : في انجلترا ج . ب . ش ، وفي المانيا نيتشه وكان نيتشه قد جلس طويلا يتعبد عند قدمي فاجنر الذي بدوره يتعبد عند قدمي بطله سيجفريد ، وكان سيجفريد شيطانيا طيبا.
ولكن كان من سوء حظ نيتشه أنه بعد أن تهيأ لاستقبال موسيقي فاجنر بحماسة جامحة ، كأقصى ما يكون الجموح ، ذهب الي بيروث{6} ذهاب المتحمس المندفع فاستمع الي موسيقي فاجنر وهناك انقشعت عنه سحابة الوهم بقسوة مروعة لانه كان في ذلك الوقت عاجزا عن احتمال أخف أنواع الموسيقي حتي أوبرا كارمن . وهكذا طرح صنمه المعبود أرضا ، وما أن ذاق لذة تحطيم الاصنام (ولعل عادة تحطيم الاصنام هي الوحيدة التي فيها من الفائدة بقدر ما فيها من اللذة) حتي أصبح شيطانيا مريدا ، يتندر بالنكت ويلقي بالحكم والامثال ، ثم احتل مركزه " علي الجانب الاخر من الخير والشر " ، وتخطي بقيمه الخاصة قيمنا الاخلاقية ، وسعي بصفة عامة لانقاذ البشرية من حكامها وأئمتها الذين يسيرون علي الصراط المستقيم ، ولكن بلا ضمير لديهم علي الاطلاق ..
والمجلد الذي أصدره توا ، مستر فيشر آنوين ، يحتوي علي كتاب " تسلسل الاخلاق " ترجمة مستر وليم هاوسمان كما يحتوي الامثال والحكم المنظومة التي نقلها الى الانجليزية مستر جون جرأي بأسلوب اكثر من ذكي . ثم أعيد نشر كتاب " هكذا تكلم زرادشت"{7} في مجلد مصاحب للمجلد السابق ، وهو الاخر نفحة من الحكمة الشيطانية بأسلوب شديد التركيز ..
------------------
* ستر داي ريفيو 13 مايو 1899 بمناسبة نشر مؤلفات فردريك نيتشه لاول مرة مترجمة الى الانجليزية . في جزئين (الناشر فيشر آنوين لندن)
{1} أم وينستون تشرشل.
{2} W.blake شاعر انجليزى (1797-1827) المتنبي والمتهم بالجنون . كان يزعم أنه يري الملائكة والشياطين ويتحدث اليهم ، ويصورهم في شعره.
{3} A.C.Swinburne شاعر انجليزي (1837-1909) الوثني المتمرد ، أخذ عن بليك وبودلير.
{4} Putney بلدة في جنوب غربي لندن وهي مسقط راس سوينبورن .
{5} Mark Twain صمويل لانجهورن كليمنس 1835-1910 الكاتب الامريكي الساخر مؤلف "مغامرات هكلبري فن" ترجمت و"توم سوير "ترجمت .
{6} Bayrouth المدينة البافارية في المانيا حيث شيد فاجنر "مسرح العيد" حسب تصميمه . وافتتح المسرح سنة 1876 بأوبرا فاجنر" خاتم النبلونج " وظل المسرح والمدينة وأهلها أوفياء لموسيقي فاجنر الي اليوم.
{7} Thus Spake Zarathustre (مترجم الى العربية بقلم فليكس فارس).
من كتاب "مختارات من برناردشو في السياسة والنقد" ترجمة الدكتور عمر مكاوي ، دار الهلال ، كتاب الهلال ، العدد 170،مايو 1965.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق