الأحد، 29 يونيو 2014

"سنوحي " قصة مصرية بقلم الدكتور محمد عوض محمد.




.. وأظنك أيها القارىء تعرف هذه القصيدة . فقد وصف شاعرنا فيها بلاط الملك صنفرو ، وهو من أعظم ملوكنا الأقدمين ، وقد وقف بين يديه في أدب وخشوع كاهن يسمي الروح الجميل ، فقال له الملك : حدثنا أيها الكاهن حديثاً يسلينا ، ويذهب عنا الضجر . فيقول الكاهن : أيريد الملك المحبوب أن أحدثه عن العهود الغبرة أم العصور القادمة؟ فيقول صنفرو : بل حدثنا عن المستقبل وارفع عن الأعين الحجب لكي تنفذ إلي السنين والقرون البعيدة.
هنالك يطرق " الروح الجميل " ملياً ، وهو يلتمس النور وسط الغياهب ، ثم يتناول قرطاساً وقلماً ، ويخط السطور الآتية :
" أيها القلب الجريح ! اندب هذه الأرض التي عليها درجت وفيها كنت تغدو وتروح ! اندب أرض (بسطة) التي عشت فيها، وعين شمس التي ولدت بها .. اندب هذه الرياض الفيحاء ، يوم تهب عليها ريح السموم ، تحمل أجلاف الأسيويين ، فينقضون علي كل قرية آمنة فينتزعون أمنها ورخاءها . ويسطون علي الفلاح في مزرعته ، فيختطفون منه ماشيته ، وهو يحرث بها أرضه .
" أيها القلب لا تهدأ ولا تسكن ، بل قم فاندب هذا المنظر المفجع ، الذي يطالعك أينما نظرت . إن البلاد قد شاع فيها الخراب والدمار . كأن العمران لم يقم بها يوماً . وكأن (رع) لم يخلق فيها شيئاً . بل كأنه لم يبدأ أعماله فيها بعد !
" لقد عم الهلاك الأرض كلها ، فلم يبق فيها شىء قائم . وليس هنالك من يعني بأمرها ، أو يتحدث ، أو يرثي لها ، حتي الدموع قد جفت فلم يعد أحد يسكب قطرة منها .
" عجباً لهذه الأرض كيف حالت عما عهدناه!
" والشمس كيف احتجبت خلف ستار كثيف من التراب والرماد!
" لقد جف الزرع فأصبح هشيماً تذره الرياح .
" وتطاير التراب حتي ملأ الفضاء كله . وأرسلت الشمس شعاعها الذهبي ، فحالت دونه حجب التراب والغبار المتاطير في السماء .
" حدقي يا عين في المستقبل ، واخترقي حجب الغيب ، لكي اتحدث بوضوح وجلاء عما سيأتي به الأيام .
" نهر مصر العظيم ما خطبه ؟ لقد غاص ماؤه ، وجف مجراه ! فالناس تعبره سعياً علي القدم .
" عبثاً يبحثون عن ماء يسيرون فيه سفنهم أو زوارقهم .
" لقد اختلطت الأرض ومجاري الأنهار والقنوات ، فلا تعرف أيها النهر ، وأيها الحقل ، وأيها الشاطىء.
" وأقبلت من الجنوب ريح الدبور ، فطاردت ريح الشمال ، حتي أزالتها من الوجود . طردتها من الأرض ، وطردتها من السماء . فوا أسفي علي ريح الشمال ، العليلة المنعشة ، التي تنشر الحياة ، وتبعث القوة .
" والطير قد هربت من الدلت ، وغادرت أرض المستنقعات ، وهي وطنها الذي تضع فيها بيضها ، وتربي فيه صغارها . اضطرت لأن تنزل في مساكن الناس ، فآوت إلي غير مأوي ، ولجأت إلي غير مأمن .
"وقد خرجت البرك ودمرت البطائح ، التي كانت تصاد فيها الأسماك ، والطيور البرية ، وخرجت من حولها الديار التي كانت تجفف فيها وتهيأ ، وتعد لتغذية الناس .
" ضاعت خيرات الأرض ، وحل الخوف والجوع ، لكي تمتليء بطون أولئك البدو الصعاليك ، الذين يجوسون خلال الديار.
" سطا الأسيويون الأجلاف من الشرق علي أرض مصر، وهي آمنة مطمئنة ، لا تخشي شراً ، ولا يتوقع أذي . فاذا الويل ينزل بساحتها فجأة والعذاب يغشي أولئك الآمنين الوداعين .
" وإذا منازلهم يسطي عليها إذا جن الليل ، ويختطف ما بها ، فكانت العيون لا تعرف النعاس طمعا ، لأنها تنتظر الويل أن يحل بها في أي لحظة .
" لكأني أري وحوش الصحراء أولئك ، وقد أكبوا علي الأنهار يكرعون ، ويوشك ماؤها أن يغيض تحت أفواههم .. ثم أراهم بعد ذلك يترامون علي الشواطيء ، دون أن يكون هنالك من يدفعهم أو يذودهم .
" شاع الاضطراب في القري والدساكر ، وتهدمت الحدود بين المقاطعات . وكثر السلب ، وانتشر النهب والعدون ، واغتصبت الحقول من أصحابها ، واعتدي القوي علي حق الضعيف . وامتلأت القلوب غيظاً وكمدا . وما يستطيع أحد أن يعرف ما خبيء له ثنايا الغيب .
" ألا إني أري الأرض الآن ماثلة أمامي تصيح بالويل والثبور ، وتندب أبناءها البررة ! لقد أحالهم الشقاء إلي وحوش ضارية . ها هم قد تقلدوا أسلحتهم لكي يكتسبوا قوتهم بالقتال والنضال ، واصطنعوا السهام من النحاس لكي يشتروا خبزهم بدمائهم .
" ولقد تري أفواهم مفتوحة كأنهم يضحكون ، ما هو إلا ضحك المريض الذي به الداء ، وأعوزه الدواء .
" أما الدموع فلم تلبث أن جمدت في العيون ، والمآقي جفت ، وجل الخطب عن أن يكون الدمع فيه مسعفا أو مخففا . اقد أصبح الموت نفسه شيئاً مألوفاً . وأينما نظرت أو توجهت ألفيته قائما بين يديك ، يحدق في وجهك ، ويكشر عن أنيابه المستطيلة الزرقاء .
" والقتل الغادر الحانث ، كامن في كل ركن وتحت كل حجر ، ووراء كل جدار . وكأني أري الصديق يغتال صديقه ، والأخ يفتك باخيه ، والابن - يا رباه ! بأبيه ...
" فظائع لم يعرف القطر لها شبيهاً في أي زمان!
" ولقد احتشدت البلاد بجموع من الشحاذين في أسمال بالية ، ووجوه جافة شاحبة ، كأنما انشقت عنهم المقابر . وماذا يشحذون ، وممن يسألون ، وقد أصبح الغني ذو الجاه فقيراً معدماً . بعد أن سلبوه ماله وأرضه ومتاعه ، وأعطوها لجلف من أولئك الأغراب ، النازحين ، وأينما ذهبت تري صاحب الثروة يتضور جوعاً والغريب يعيش وسط النعيم واليسار.
" وامتلأت الصدور حقداً وضغناً ، واشتد بالناس الضجر والغيظ المكبوت . حتي ما يطيق إنسان أن يسمع صوتاً ، ولا يحتمل أن توجه إليه كلمة . فلا يكاد اللفظ أن يغادر الشفتين حتي ترفع العصي ، وتستل المدي . وتشتعل الحفائظ.
" ومن العجائب أن تري الحكام وأولي الأمر قد ازداد عددهم أضعافاً مضاعفة ، بينما تتضاءل الأرض ، وتقل مساحة المنزرع منها . الحقل فقير النبات ، والضرائب كبيرة ضخمة . والحب قليل ، ولكن مكيال الجباة عظيم . وهم يملأونه حتى يفيض ويطفح.
" حيل بين الناس وبين الشمس المشرقة ، فهي في عالم وهم في عالم آخر . وبينهما التراب الكثيف ، تثيره العواصف من الأرض الجافة ، قد زال عنها النبت والشجر ، وما يقدر الناس أن يميزوا ظهراً من عصر لأن الأجسام ليس لها ظل . والأشعة الباهرة لا تقع علي جسم . علي أن الشمس ما برحت في جو السماء . تشرق كما كانت تشرق من قبل ، وتجري في السماء كما كانت تجري . ولكن دونها كل هذه الطبقات الكثيفة من الغبار والتراب ...
" أجل أيها الملك العادل صنفرو ، إن القطر سيغمره الشقاء من جميع أطرافه . والبلاد يشملها الحزن ، وتضنيها الآلام . وقد ساد الاضطراب ، وعمت الفوضي .. وقد أصبح العزيز ذليلا ، والوضيع كريماً . وطورد الموسرون من قصورهم حتي اعتصموا بالمقابر . وعين شمس وطني ومسقط رأسي قد زايلها العمران ، وباتت قفراً بلقعاً ..
فسبحانك اللهم ! كيف جاز للدمار أن يغتال أرضاً هي مهد الآ’لهة جميعاً؟
" ما هذا الذي أراه ؟ إن الغمة تنجلي ، والغبار ينجاب . والشمس تشرق . وهذا ملك عظيم مقبل من الجنوب ، إنه أميني ، ولدته في مصر العليا أم من بلاد النوبة .
" إني لأراه يلبس التاج الأحمر ، ويستلم التاج الأبيض . ثم لا يبرح حتي يلبس علي التاجين ، ويجلس علي العرشين . وقد أظله علم الإلهين.
" فانعموا يا بني عصره بهذه السعادة التي أتيحت لكم! إن رجلا عظيما سليل بيت كريم ، قد نقش اسمه في سجل الخلود . أنظرو إلي الشريرين كيف يتوارون عن الأنظار ،وإلي الجبارين المعتدين كيف ذلت أعناقهم ، وخفت أصواتهم . وإلي الأسيويين الأجلاف كيف يقتلون ويمزقون! وإلي الليبيين اللؤماء كيف تذهب دورهم وأجسادهم طعاماً للنيران ..
" يا له من ملك عظيم استطاع أن يكر علي الأعداء بيمينه ، ويخضع الثوار بيساره . وقد أجلي الأعداء عن أرض الوطن بسطوه وبأسه . وجمع حوله القلوب النافرة بهيبته وعدله . وعلي جبينه اللامع ثعبان الملك . لا تكاد تبصره العيون حتي تستشعر الهيبة والتقوي .
" ولكنه لا يكتفي بقهر الأعداء وتمزيقهم ، بل يقيم في شرق الدلتا أسواراً وحصوناً ، لكي يرد بها وحوش الصحراء إذا حدثتهم أنفسهم مرة أخري بأن ينقضوا علي هذا البلد الآمن . فانظر إليه كيف يخدم عصره ، والعصور التي بعده . فاذا أراد الاسيويون بعد اليوم ماء يسقون به ماشيتهم ، فليلتمسوه التماساً ، في ذلة وخضوع كما كان دأبهم من قبل .
" وهكذا يعود الحق إلي نصابه ، ويزهق الباطل ، ويمحي من الأرض . لإن الذين يشهدون هذا كله ، ستمتليء نفوسهم سروراً وغبطة، وسيقبلون علي مليكهم العظيم لينالوا شرف خدمته، والائتمار بأمره.
" ولعلي - في ذلك الزمن البعيد - أن يذكرني ولي من الأولياء ، فيلقي علي جدثي سجلا من الماء ، ويلتمس الرحمة لروحي ، حين يري أني ما قلت إلا الحق ، ولم أنطق بغير الصدق "

هنالك يطرق " الروح الجميل " ملياً ، وهو يلتمس النور وسط الغياهب ، ثم يتناول قرطاساً وقلماً ، ويخط السطور الآتية :
" أيها القلب الجريح ! اندب هذه الأرض التي عليها درجت وفيها كنت تغدو وتروح ! اندب أرض (بسطة) التي عشت فيها، وعين شمس التي ولدت بها .. اندب هذه الرياض الفيحاء ، يوم تهب عليها ريح السموم ، تحمل أجلاف الأسيويين ، فينقضون علي كل قرية آمنة فينتزعون أمنها ورخاءها . ويسطون علي الفلاح في مزرعته ، فيختطفون منه ماشيته ، وهو يحرث بها أرضه .
" أيها القلب لا تهدأ ولا تسكن ، بل قم فاندب هذا المنظر المفجع ، الذي يطالعك أينما نظرت . إن البلاد قد شاع فيها الخراب والدمار . كأن العمران لم يقم بها يوماً . وكأن (رع) لم يخلق فيها شيئاً . بل كأنه لم يبدأ أعماله فيها بعد !
" لقد عم الهلاك الأرض كلها ، فلم يبق فيها شىء قائم . وليس هنالك من يعني بأمرها ، أو يتحدث ، أو يرثي لها ، حتي الدموع قد جفت فلم يعد أحد يسكب قطرة منها .
" عجباً لهذه الأرض كيف حالت عما عهدناه!
" والشمس كيف احتجبت خلف ستار كثيف من التراب والرماد!
" لقد جف الزرع فأصبح هشيماً تذره الرياح .
" وتطاير التراب حتي ملأ الفضاء كله . وأرسلت الشمس شعاعها الذهبي ، فحالت دونه حجب التراب والغبار المتاطير في السماء .
" حدقي يا عين في المستقبل ، واخترقي حجب الغيب ، لكي اتحدث بوضوح وجلاء عما سيأتي به الأيام .
" نهر مصر العظيم ما خطبه ؟ لقد غاص ماؤه ، وجف مجراه ! فالناس تعبره سعياً علي القدم .
" عبثاً يبحثون عن ماء يسيرون فيه سفنهم أو زوارقهم .
" لقد اختلطت الأرض ومجاري الأنهار والقنوات ، فلا تعرف أيها النهر ، وأيها الحقل ، وأيها الشاطىء.
" وأقبلت من الجنوب ريح الدبور ، فطاردت ريح الشمال ، حتي أزالتها من الوجود . طردتها من الأرض ، وطردتها من السماء . فوا أسفي علي ريح الشمال ، العليلة المنعشة ، التي تنشر الحياة ، وتبعث القوة .
" والطير قد هربت من الدلت ، وغادرت أرض المستنقعات ، وهي وطنها الذي تضع فيها بيضها ، وتربي فيه صغارها . اضطرت لأن تنزل في مساكن الناس ، فآوت إلي غير مأوي ، ولجأت إلي غير مأمن .
"وقد خرجت البرك ودمرت البطائح ، التي كانت تصاد فيها الأسماك ، والطيور البرية ، وخرجت من حولها الديار التي كانت تجفف فيها وتهيأ ، وتعد لتغذية الناس .
" ضاعت خيرات الأرض ، وحل الخوف والجوع ، لكي تمتليء بطون أولئك البدو الصعاليك ، الذين يجوسون خلال الديار.
" سطا الأسيويون الأجلاف من الشرق علي أرض مصر، وهي آمنة مطمئنة ، لا تخشي شراً ، ولا يتوقع أذي . فاذا الويل ينزل بساحتها فجأة والعذاب يغشي أولئك الآمنين الوداعين .
" وإذا منازلهم يسطي عليها إذا جن الليل ، ويختطف ما بها ، فكانت العيون لا تعرف النعاس طمعا ، لأنها تنتظر الويل أن يحل بها في أي لحظة .
" لكأني أري وحوش الصحراء أولئك ، وقد أكبوا علي الأنهار يكرعون ، ويوشك ماؤها أن يغيض تحت أفواههم .. ثم أراهم بعد ذلك يترامون علي الشواطيء ، دون أن يكون هنالك من يدفعهم أو يذودهم .
" شاع الاضطراب في القري والدساكر ، وتهدمت الحدود بين المقاطعات . وكثر السلب ، وانتشر النهب والعدون ، واغتصبت الحقول من أصحابها ، واعتدي القوي علي حق الضعيف . وامتلأت القلوب غيظاً وكمدا . وما يستطيع أحد أن يعرف ما خبيء له ثنايا الغيب .
" ألا إني أري الأرض الآن ماثلة أمامي تصيح بالويل والثبور ، وتندب أبناءها البررة ! لقد أحالهم الشقاء إلي وحوش ضارية . ها هم قد تقلدوا أسلحتهم لكي يكتسبوا قوتهم بالقتال والنضال ، واصطنعوا السهام من النحاس لكي يشتروا خبزهم بدمائهم .
" ولقد تري أفواهم مفتوحة كأنهم يضحكون ، ما هو إلا ضحك المريض الذي به الداء ، وأعوزه الدواء .
" أما الدموع فلم تلبث أن جمدت في العيون ، والمآقي جفت ، وجل الخطب عن أن يكون الدمع فيه مسعفا أو مخففا . اقد أصبح الموت نفسه شيئاً مألوفاً . وأينما نظرت أو توجهت ألفيته قائما بين يديك ، يحدق في وجهك ، ويكشر عن أنيابه المستطيلة الزرقاء .
" والقتل الغادر الحانث ، كامن في كل ركن وتحت كل حجر ، ووراء كل جدار . وكأني أري الصديق يغتال صديقه ، والأخ يفتك باخيه ، والابن - يا رباه ! بأبيه ...
" فظائع لم يعرف القطر لها شبيهاً في أي زمان!
" ولقد احتشدت البلاد بجموع من الشحاذين في أسمال بالية ، ووجوه جافة شاحبة ، كأنما انشقت عنهم المقابر . وماذا يشحذون ، وممن يسألون ، وقد أصبح الغني ذو الجاه فقيراً معدماً . بعد أن سلبوه ماله وأرضه ومتاعه ، وأعطوها لجلف من أولئك الأغراب ، النازحين ، وأينما ذهبت تري صاحب الثروة يتضور جوعاً والغريب يعيش وسط النعيم واليسار.
" وامتلأت الصدور حقداً وضغناً ، واشتد بالناس الضجر والغيظ المكبوت . حتي ما يطيق إنسان أن يسمع صوتاً ، ولا يحتمل أن توجه إليه كلمة . فلا يكاد اللفظ أن يغادر الشفتين حتي ترفع العصي ، وتستل المدي . وتشتعل الحفائظ.
" ومن العجائب أن تري الحكام وأولي الأمر قد ازداد عددهم أضعافاً مضاعفة ، بينما تتضاءل الأرض ، وتقل مساحة المنزرع منها . الحقل فقير النبات ، والضرائب كبيرة ضخمة . والحب قليل ، ولكن مكيال الجباة عظيم . وهم يملأونه حتى يفيض ويطفح.
" حيل بين الناس وبين الشمس المشرقة ، فهي في عالم وهم في عالم آخر . وبينهما التراب الكثيف ، تثيره العواصف من الأرض الجافة ، قد زال عنها النبت والشجر ، وما يقدر الناس أن يميزوا ظهراً من عصر لأن الأجسام ليس لها ظل . والأشعة الباهرة لا تقع علي جسم . علي أن الشمس ما برحت في جو السماء . تشرق كما كانت تشرق من قبل ، وتجري في السماء كما كانت تجري . ولكن دونها كل هذه الطبقات الكثيفة من الغبار والتراب ...
" أجل أيها الملك العادل صنفرو ، إن القطر سيغمره الشقاء من جميع أطرافه . والبلاد يشملها الحزن ، وتضنيها الآلام . وقد ساد الاضطراب ، وعمت الفوضي .. وقد أصبح العزيز ذليلا ، والوضيع كريماً . وطورد الموسرون من قصورهم حتي اعتصموا بالمقابر . وعين شمس وطني ومسقط رأسي قد زايلها العمران ، وباتت قفراً بلقعاً ..
فسبحانك اللهم ! كيف جاز للدمار أن يغتال أرضاً هي مهد الآ’لهة جميعاً؟
" ما هذا الذي أراه ؟ إن الغمة تنجلي ، والغبار ينجاب . والشمس تشرق . وهذا ملك عظيم مقبل من الجنوب ، إنه أميني ، ولدته في مصر العليا أم من بلاد النوبة .
" إني لأراه يلبس التاج الأحمر ، ويستلم التاج الأبيض . ثم لا يبرح حتي يلبس علي التاجين ، ويجلس علي العرشين . وقد أظله علم الإلهين.
" فانعموا يا بني عصره بهذه السعادة التي أتيحت لكم! إن رجلا عظيما سليل بيت كريم ، قد نقش اسمه في سجل الخلود . أنظرو إلي الشريرين كيف يتوارون عن الأنظار ،وإلي الجبارين المعتدين كيف ذلت أعناقهم ، وخفت أصواتهم . وإلي الأسيويين الأجلاف كيف يقتلون ويمزقون! وإلي الليبيين اللؤماء كيف تذهب دورهم وأجسادهم طعاماً للنيران ..
" يا له من ملك عظيم استطاع أن يكر علي الأعداء بيمينه ، ويخضع الثوار بيساره . وقد أجلي الأعداء عن أرض الوطن بسطوه وبأسه . وجمع حوله القلوب النافرة بهيبته وعدله . وعلي جبينه اللامع ثعبان الملك . لا تكاد تبصره العيون حتي تستشعر الهيبة والتقوي .
" ولكنه لا يكتفي بقهر الأعداء وتمزيقهم ، بل يقيم في شرق الدلتا أسواراً وحصوناً ، لكي يرد بها وحوش الصحراء إذا حدثتهم أنفسهم مرة أخري بأن ينقضوا علي هذا البلد الآمن . فانظر إليه كيف يخدم عصره ، والعصور التي بعده . فاذا أراد الاسيويون بعد اليوم ماء يسقون به ماشيتهم ، فليلتمسوه التماساً ، في ذلة وخضوع كما كان دأبهم من قبل .
" وهكذا يعود الحق إلي نصابه ، ويزهق الباطل ، ويمحي من الأرض . لإن الذين يشهدون هذا كله ، ستمتليء نفوسهم سروراً وغبطة، وسيقبلون علي مليكهم العظيم لينالوا شرف خدمته، والائتمار بأمره.
" ولعلي - في ذلك الزمن البعيد - أن يذكرني ولي من الأولياء ، فيلقي علي جدثي سجلا من الماء ، ويلتمس الرحمة لروحي ، حين يري أني ما قلت إلا الحق ، ولم أنطق بغير الصدق "

------------------------

" سنوحي " قصة مصرية ، تأليف :الدكتور محمد عوض محمد، سلسلة اقرأ،مطبعة المعارف،العدد 12، ديسمبر 1943.

نيتشه ـ أداء فريضة الشيطان * بقلم الكاتب المسرحي جورج برناردشو


ترجمة: الدكتور عمر مكاوي



منذ سنوات قليلة ، كانت هناك شركة لندنية تجارية للنشر تعمل تحت اسم : هنري وشركاه ، وكانت سياستها في العمل، سياسة متهورة تتلخص في القيام بمشروع عجيب هو أن تدعو أفرادا من جمهور القراء ممن يصعب ارضاؤهم ليشتركوا بمبلغ سنوي متساو تقريبا ، في دفع ايجار دار في ميدان جروزفنر ، وبهدف اصدار صحيفة يتولي كتابتها كلها من أولها الى آخرها عبقري من العباقرة ، وتوزع عليهم مرتين في الاسبوع وعلي مائدة الافطار . ولم يخطر لهم ان يكلفوا ليدي راندولف تشرشل{1} بالقيام بتحريرها ولكهنم دعوني أنا لكتابة العدد الاول . ووعدتهم ولكني لم أنهض قط لتحقيق الموعد وفي تلك الاثناء أخذت الشركة تتسلي باصدار طبعة انجليزية لمؤلفات فردريك نيتشه آملة أن يكون ذلك أكثر ما في جعبتهم من المشروعات طيشا وتهورا بعد مشروع الصحيفة . ولم أكن أنا شخصيا أصدق وجود أشخاص باسم هنري وشركاه فلم تكن الشركة الا تجسيدا حيا للمستر جون.ب.جرين ذلك الرجل الجسور المحب للمخاطرة والذي أسس " المسرح المستقل " وأخذ لندن علي غرة عندما أحدث فيها انفجار مدويا بعرض مسرحية "الاشباح" لابسن . ولم يستطيع الا بصعوبة أن يعثر علي من هو أفضل من نيتشه ليحدث في لندن انفجارا مماثلايكون له نفس الوقع . وظهر من ترجمة اعمال نيتشه جزءان ، قبل ان تدفع الشركة ثمن تهورها ، ولم يكن لها في الامر حيلة ، بتصفية حساباتها تصفية نظيفة شريفة ، وبيع جميع ممتلكاتها ومخلفاتها ، والاختفاء من دنيا الناشرين .
ومما يستلفت النظر ، أن يقدر للمشروعين الطوبويين اللذين قام بهما هنري وشركاه ، أن يعيشا بعد وفاة أصحابهما الذين دفنت مع عظامهم مشروعات تجارية أخري كانت أقرب الي النجاح من وجهة النظر العلمية . فصحيفتهم الدورية التي كان ثمنها مرتفعا بصورة وقحة تدمغ المشترك فيها بوصمة الثقافة الارستقراطية ـ علي وشك الصدور الآن . وأما ترجمة أعمال نيتشه فقد واصلت طريقها الثوري الانقلابي علي يد مستر آنوين المحترم .
ان نيتشه هو محامي الشيطان ، في روب المحامي العصري . وفي الزمن الماضي عندما كانت تثار قضية اثبات صفة القداسة علي أحد الاولياء ، كانوا يسمحون للشيطان بأن يوكل عنه محاميا يتولي الدفاع عن حقوقه في روح ذلك الولي . وبطبيعة الحال لم يدر في خلد أي انسان أن ينهض مدافعا عن حقوق الشيطان واعتباره أحد الموجهين والقادة للجنس البشري وان كان قد أسيء فهمه كثيرا فضلا عن تمتعه بالاصالة والاستقلال في الفكر . واستمر الحال مع ذلك حتي القرن التاسع عشر عندما تجاسر وليم بليك {2} فعبر الحاجز الى الناحية الاخري ـ والف حزبا للشيطان . ومن حسن حظه أنه كان شاعرا ومن ثم اعتبر مجنونا مشبعا بالتناقض بدلا من أن يعتبر زنديقا وكافرا. وحقق الحزب تقدما طفيفا في فترة طويلة نسبيا ، لان البلاد كانت في ذلك الوقت منهمكة في عرض دينها علي النار المطهرة في بوتقة النقد التي فاحت منها أخيرا رائحة عناصر وخامات أفريقية بدائية . غير أن هذا النقد المطهر بالغ في تمجيد الواجب والاخلاق والقانون وحب الغير ، و وضعها في مرتبة تفوق مرتبة الايمان الدينى . وأقامت البلاد جمعيات أخلاقية وتولتها بالرعاية تاركة الشيطان صديقي العجوز المسكين (فقد كنت أنا أيضا مولودا شيطانيا) في حالة أسوا مما كان فيها في أي وقت . ومصي مستر سوينبورن {3}يشرح بليك ويفسره . بل تمادي الى أن هتف ينادي الشيطان بقوله : "فلتهبط علينا من عليائك ! ولتخلصنا من الفضيلة ! " غير أن ايماءات بوتني {4} الورعة اثرت عليه وعادت به الى الصف ، وهو الان رجل محترم تماما يخشي شكسبير كما يخشي الله.
وأطلق مارك توين{5} يضع شرارات شيطانية في سماء الادب ، لم يكد ينتهي من اطلاقها حتي سقط صريع المناخ الامريكي الكاسح ، الذي تسود فيه قيم الفروسية والواجب والدماثة أي قيم نبلاء الاقطاع. ثم هبت في باريس نفحة شيطانية يائسة مزيفة تنهض علي عقيدة دينية جامدة تقرر أن أمير الظلام (الشيطان) ليس جنتلمانا ، مما زعزع الثقة في عبادة ابن الصباح (الشيطان ايضا) عبادة صادقة . وبدت المسألة كما لو كان كل شيء قد ضاع عندما عثرت القضية علي ابن درامي مخلص لها كل الاخلاص في شخص ابسن الذي كا أول امام حقيقي أمسك بتلابيب القيم التقليدية قيم الواجب وانكار الذات والمثالية والتضحية ... الى آخر عناصر المؤامرة الموجهة ضد الشيطان ، وجرها جميعا الى ساحة المحاكمة.
وما اكثر الذين وضعتهم هذه المؤامرة من المحامين الممتازين المدافعين عن الشيطان ، موضع الاتهام والتلبس بالجريمة . فقد انتشر زعم مخجل وشائن ، يزعم أن للرجل الصالح أن يفعل أي شيء يراه صوابا (والصواب في هذه الحالة معناه بالطبع أي شيء يحبه الرجل الصالح) بدون أي اعتبار لمصالح الاشرار والفاسدين اي مصالح المجتمع بصفة عامة . وما أن ظهر ابسن حتي ولي هذا الزعم مدبرا ، ثم حوصر وألقي القبض عليه ووضع في قفص الاتهام وارغم علي أن يدافع عن نفسه ، وبهذا ـ أي في نهاية المطاف ـ أصبح لحزب الشيطان نفوذ وسلطان.
وفي أثر الكاتب الدرامي جاء الفيلسوف : في انجلترا ج . ب . ش ، وفي المانيا نيتشه وكان نيتشه قد جلس طويلا يتعبد عند قدمي فاجنر الذي بدوره يتعبد عند قدمي بطله سيجفريد ، وكان سيجفريد شيطانيا طيبا.
ولكن كان من سوء حظ نيتشه أنه بعد أن تهيأ لاستقبال موسيقي فاجنر بحماسة جامحة ، كأقصى ما يكون الجموح ، ذهب الي بيروث{6} ذهاب المتحمس المندفع فاستمع الي موسيقي فاجنر وهناك انقشعت عنه سحابة الوهم بقسوة مروعة لانه كان في ذلك الوقت عاجزا عن احتمال أخف أنواع الموسيقي حتي أوبرا كارمن . وهكذا طرح صنمه المعبود أرضا ، وما أن ذاق لذة تحطيم الاصنام (ولعل عادة تحطيم الاصنام هي الوحيدة التي فيها من الفائدة بقدر ما فيها من اللذة) حتي أصبح شيطانيا مريدا ، يتندر بالنكت ويلقي بالحكم والامثال ، ثم احتل مركزه " علي الجانب الاخر من الخير والشر " ، وتخطي بقيمه الخاصة قيمنا الاخلاقية ، وسعي بصفة عامة لانقاذ البشرية من حكامها وأئمتها الذين يسيرون علي الصراط المستقيم ، ولكن بلا ضمير لديهم علي الاطلاق ..
والمجلد الذي أصدره توا ، مستر فيشر آنوين ، يحتوي علي كتاب " تسلسل الاخلاق " ترجمة مستر وليم هاوسمان كما يحتوي الامثال والحكم المنظومة التي نقلها الى الانجليزية مستر جون جرأي بأسلوب اكثر من ذكي . ثم أعيد نشر كتاب " هكذا تكلم زرادشت"{7} في مجلد مصاحب للمجلد السابق ، وهو الاخر نفحة من الحكمة الشيطانية بأسلوب شديد التركيز ..
------------------
* ستر داي ريفيو 13 مايو 1899 بمناسبة نشر مؤلفات فردريك نيتشه لاول مرة مترجمة الى الانجليزية . في جزئين (الناشر فيشر آنوين لندن)
{1} أم وينستون تشرشل.
{2} W.blake شاعر انجليزى (1797-1827) المتنبي والمتهم بالجنون . كان يزعم أنه يري الملائكة والشياطين ويتحدث اليهم ، ويصورهم في شعره.
{3} A.C.Swinburne شاعر انجليزي (1837-1909) الوثني المتمرد ، أخذ عن بليك وبودلير.
{4} Putney بلدة في جنوب غربي لندن وهي مسقط راس سوينبورن .
{5} Mark Twain صمويل لانجهورن كليمنس 1835-1910 الكاتب الامريكي الساخر مؤلف "مغامرات هكلبري فن" ترجمت و"توم سوير "ترجمت .
{6} Bayrouth المدينة البافارية في المانيا حيث شيد فاجنر "مسرح العيد" حسب تصميمه . وافتتح المسرح سنة 1876 بأوبرا فاجنر" خاتم النبلونج " وظل المسرح والمدينة وأهلها أوفياء لموسيقي فاجنر الي اليوم.
{7} Thus Spake Zarathustre (مترجم الى العربية بقلم فليكس فارس).
من كتاب "مختارات من برناردشو في السياسة والنقد" ترجمة الدكتور عمر مكاوي ، دار الهلال ، كتاب الهلال ، العدد 170،مايو 1965.

السبت، 27 يوليو 2013

مختصر دراسة التاريخ - تأليف: أرنولد توينبي . ( 4 مجلدات )


 .http://alexandra.ahlamontada.com/t7579-topic
يقسم توينبي الحضارات الى إحدى وعشرين حضارة ، لم يتبق منها في زماننا الذي نعيشه سوى خمس حضارات هي المسيحية الغربية، والمسيحية الأرثوذكسية، والإسلامية، والهندية، والشرق الأقصى ..

«سقوط الفرعون» لروبير سوليه بالعربية


«سقوط الفرعون... ثمانية عشر يوماً غيرت وجه مصر»، للكاتب الفرنسي روبير سوليه نقلته إلى العربية ناهد الطناني، وصدرت الترجمة عن «مكتبة الأسرة» في القاهرة، وكانت طبعته الأولى بالفرنسية صدرت في باريس في نيسان (أبريل) 2011.
وتصدرت النـسخة العـربية مقدمة كتبها سوليه لمناسبة صدورها، رأى فيـها أن ما أطلق عليه «الربيع العربي» بات أقرب إلى شـتاء قارس البرودة... «ففي الوقت الذي أكتب فيه هذه السطور تحمل الأخبار الجارية في مصر كل يوم مفاجأة جديدة. تسيطر علينا جميعاً حال شديدة من عدم وضوح الرؤية. لا أحد يعلم ما يحمله الغد، لكن الجميع يدرك أن تاريخاً طويلاً قد بدأ».
ويختتم سوليه، المصري المولد، مقدمة الطبعة العربية لكتابه بقوله «إن مجرد التطلع إلى الديموقراطية وطرد نظام شمولي لا يكفي لإقرار الديموقراطية. هناك في مصر قوى ظلامية تسعى للاستفادة من حال الاضطراب الراهنة، لفرض أفكار تعود إلى عصر آخر، وإعادة البلاد قروناً إلى الوراء، ولا أرى لماذا يجد هذا الشعب المتحضر نفسه مضطراً للاختيار ما بين الديكتاتورية البوليسية والديكتاتورية الدينية، فهناك طريق ثالث هو الديموقراطية».
والكتاب الذي يتألف من 232 صفحة يضم 32 فصلاً، إضافة إلى الخاتمة التي يؤكد فيها أنه زار «ميدان التحرير»، في وسط القاهرة، بعد شهرين على انطلاق الـثورة فوجـده يـحتـفظ بصـورته قبل الأحداث. ومن ثم فإنه يعتقد أن الثمانية عشر يوماً التي تخلى في نهايتها الرئيس السابق حسني مبارك عن الحكم «هي الأجمل» في حياة من ثاروا ضد الاستبداد والفساد، وتكاد أن تكون مقدمة لثورة لم تبدأ بعد.
ويضع سوليه، الصحافي والروائي، المولع بمصر، في اختتام الكتاب خلاصة أحداث كل يوم من الأيام الـ18 بدءاً من 25 يناير حتى 11 شباط (فبراير)، وهو اليوم الذي أعلن فيه عمر سليمان أن الرئيس مبارك قرر التخلي عن سلطاته كرئيس للجمهورية وتكليف «المجلس الأعلى للقوات المسلحة» إدارة شؤون البلاد.

الحمار يحمل الصنم







سار حمار ذات مرة في طريق احدى المدن، وهو يحمل صنما مشهورا من خشب لينصب في بعض معابدها، فكان اذا مر على جماعة ورأوه، خرّوا سجدا للصنم، فحسب الحمار انهم يطأطئون رؤوسهم تحية له واجلالا، فدخله الغرور والكبر، وامتنع ان يواصل السير .
ورآه سائقه وهو يتلكأ، فاهوى بسوطه على كتفيه، وقال: عجبا ايها الاحمق العنيد، آتظن ان الأمر قد وصل الى أن يعبد الناس حمارا..
* من يضع نفسه في غير المنزلة التي يستحقها، استأهل ما يقع به من الاحتقار والهوان !



ايسوب