.. وأظنك أيها القارىء تعرف هذه القصيدة . فقد وصف شاعرنا فيها بلاط الملك صنفرو ، وهو من أعظم ملوكنا الأقدمين ، وقد وقف بين يديه في أدب وخشوع كاهن يسمي الروح الجميل ، فقال له الملك : حدثنا أيها الكاهن حديثاً يسلينا ، ويذهب عنا الضجر . فيقول الكاهن : أيريد الملك المحبوب أن أحدثه عن العهود الغبرة أم العصور القادمة؟ فيقول صنفرو : بل حدثنا عن المستقبل وارفع عن الأعين الحجب لكي تنفذ إلي السنين والقرون البعيدة.
هنالك يطرق " الروح الجميل " ملياً ، وهو يلتمس النور وسط الغياهب ، ثم يتناول قرطاساً وقلماً ، ويخط السطور الآتية :
" أيها القلب الجريح ! اندب هذه الأرض التي عليها درجت وفيها كنت تغدو وتروح ! اندب أرض (بسطة) التي عشت فيها، وعين شمس التي ولدت بها .. اندب هذه الرياض الفيحاء ، يوم تهب عليها ريح السموم ، تحمل أجلاف الأسيويين ، فينقضون علي كل قرية آمنة فينتزعون أمنها ورخاءها . ويسطون علي الفلاح في مزرعته ، فيختطفون منه ماشيته ، وهو يحرث بها أرضه .
" أيها القلب لا تهدأ ولا تسكن ، بل قم فاندب هذا المنظر المفجع ، الذي يطالعك أينما نظرت . إن البلاد قد شاع فيها الخراب والدمار . كأن العمران لم يقم بها يوماً . وكأن (رع) لم يخلق فيها شيئاً . بل كأنه لم يبدأ أعماله فيها بعد !
" لقد عم الهلاك الأرض كلها ، فلم يبق فيها شىء قائم . وليس هنالك من يعني بأمرها ، أو يتحدث ، أو يرثي لها ، حتي الدموع قد جفت فلم يعد أحد يسكب قطرة منها .
" عجباً لهذه الأرض كيف حالت عما عهدناه!
" والشمس كيف احتجبت خلف ستار كثيف من التراب والرماد!
" لقد جف الزرع فأصبح هشيماً تذره الرياح .
" وتطاير التراب حتي ملأ الفضاء كله . وأرسلت الشمس شعاعها الذهبي ، فحالت دونه حجب التراب والغبار المتاطير في السماء .
" حدقي يا عين في المستقبل ، واخترقي حجب الغيب ، لكي اتحدث بوضوح وجلاء عما سيأتي به الأيام .
" نهر مصر العظيم ما خطبه ؟ لقد غاص ماؤه ، وجف مجراه ! فالناس تعبره سعياً علي القدم .
" عبثاً يبحثون عن ماء يسيرون فيه سفنهم أو زوارقهم .
" لقد اختلطت الأرض ومجاري الأنهار والقنوات ، فلا تعرف أيها النهر ، وأيها الحقل ، وأيها الشاطىء.
" وأقبلت من الجنوب ريح الدبور ، فطاردت ريح الشمال ، حتي أزالتها من الوجود . طردتها من الأرض ، وطردتها من السماء . فوا أسفي علي ريح الشمال ، العليلة المنعشة ، التي تنشر الحياة ، وتبعث القوة .
" والطير قد هربت من الدلت ، وغادرت أرض المستنقعات ، وهي وطنها الذي تضع فيها بيضها ، وتربي فيه صغارها . اضطرت لأن تنزل في مساكن الناس ، فآوت إلي غير مأوي ، ولجأت إلي غير مأمن .
"وقد خرجت البرك ودمرت البطائح ، التي كانت تصاد فيها الأسماك ، والطيور البرية ، وخرجت من حولها الديار التي كانت تجفف فيها وتهيأ ، وتعد لتغذية الناس .
" ضاعت خيرات الأرض ، وحل الخوف والجوع ، لكي تمتليء بطون أولئك البدو الصعاليك ، الذين يجوسون خلال الديار.
" سطا الأسيويون الأجلاف من الشرق علي أرض مصر، وهي آمنة مطمئنة ، لا تخشي شراً ، ولا يتوقع أذي . فاذا الويل ينزل بساحتها فجأة والعذاب يغشي أولئك الآمنين الوداعين .
" وإذا منازلهم يسطي عليها إذا جن الليل ، ويختطف ما بها ، فكانت العيون لا تعرف النعاس طمعا ، لأنها تنتظر الويل أن يحل بها في أي لحظة .
" لكأني أري وحوش الصحراء أولئك ، وقد أكبوا علي الأنهار يكرعون ، ويوشك ماؤها أن يغيض تحت أفواههم .. ثم أراهم بعد ذلك يترامون علي الشواطيء ، دون أن يكون هنالك من يدفعهم أو يذودهم .
" شاع الاضطراب في القري والدساكر ، وتهدمت الحدود بين المقاطعات . وكثر السلب ، وانتشر النهب والعدون ، واغتصبت الحقول من أصحابها ، واعتدي القوي علي حق الضعيف . وامتلأت القلوب غيظاً وكمدا . وما يستطيع أحد أن يعرف ما خبيء له ثنايا الغيب .
" ألا إني أري الأرض الآن ماثلة أمامي تصيح بالويل والثبور ، وتندب أبناءها البررة ! لقد أحالهم الشقاء إلي وحوش ضارية . ها هم قد تقلدوا أسلحتهم لكي يكتسبوا قوتهم بالقتال والنضال ، واصطنعوا السهام من النحاس لكي يشتروا خبزهم بدمائهم .
" ولقد تري أفواهم مفتوحة كأنهم يضحكون ، ما هو إلا ضحك المريض الذي به الداء ، وأعوزه الدواء .
" أما الدموع فلم تلبث أن جمدت في العيون ، والمآقي جفت ، وجل الخطب عن أن يكون الدمع فيه مسعفا أو مخففا . اقد أصبح الموت نفسه شيئاً مألوفاً . وأينما نظرت أو توجهت ألفيته قائما بين يديك ، يحدق في وجهك ، ويكشر عن أنيابه المستطيلة الزرقاء .
" والقتل الغادر الحانث ، كامن في كل ركن وتحت كل حجر ، ووراء كل جدار . وكأني أري الصديق يغتال صديقه ، والأخ يفتك باخيه ، والابن - يا رباه ! بأبيه ...
" فظائع لم يعرف القطر لها شبيهاً في أي زمان!
" ولقد احتشدت البلاد بجموع من الشحاذين في أسمال بالية ، ووجوه جافة شاحبة ، كأنما انشقت عنهم المقابر . وماذا يشحذون ، وممن يسألون ، وقد أصبح الغني ذو الجاه فقيراً معدماً . بعد أن سلبوه ماله وأرضه ومتاعه ، وأعطوها لجلف من أولئك الأغراب ، النازحين ، وأينما ذهبت تري صاحب الثروة يتضور جوعاً والغريب يعيش وسط النعيم واليسار.
" وامتلأت الصدور حقداً وضغناً ، واشتد بالناس الضجر والغيظ المكبوت . حتي ما يطيق إنسان أن يسمع صوتاً ، ولا يحتمل أن توجه إليه كلمة . فلا يكاد اللفظ أن يغادر الشفتين حتي ترفع العصي ، وتستل المدي . وتشتعل الحفائظ.
" ومن العجائب أن تري الحكام وأولي الأمر قد ازداد عددهم أضعافاً مضاعفة ، بينما تتضاءل الأرض ، وتقل مساحة المنزرع منها . الحقل فقير النبات ، والضرائب كبيرة ضخمة . والحب قليل ، ولكن مكيال الجباة عظيم . وهم يملأونه حتى يفيض ويطفح.
" حيل بين الناس وبين الشمس المشرقة ، فهي في عالم وهم في عالم آخر . وبينهما التراب الكثيف ، تثيره العواصف من الأرض الجافة ، قد زال عنها النبت والشجر ، وما يقدر الناس أن يميزوا ظهراً من عصر لأن الأجسام ليس لها ظل . والأشعة الباهرة لا تقع علي جسم . علي أن الشمس ما برحت في جو السماء . تشرق كما كانت تشرق من قبل ، وتجري في السماء كما كانت تجري . ولكن دونها كل هذه الطبقات الكثيفة من الغبار والتراب ...
" أجل أيها الملك العادل صنفرو ، إن القطر سيغمره الشقاء من جميع أطرافه . والبلاد يشملها الحزن ، وتضنيها الآلام . وقد ساد الاضطراب ، وعمت الفوضي .. وقد أصبح العزيز ذليلا ، والوضيع كريماً . وطورد الموسرون من قصورهم حتي اعتصموا بالمقابر . وعين شمس وطني ومسقط رأسي قد زايلها العمران ، وباتت قفراً بلقعاً ..
فسبحانك اللهم ! كيف جاز للدمار أن يغتال أرضاً هي مهد الآ’لهة جميعاً؟
" ما هذا الذي أراه ؟ إن الغمة تنجلي ، والغبار ينجاب . والشمس تشرق . وهذا ملك عظيم مقبل من الجنوب ، إنه أميني ، ولدته في مصر العليا أم من بلاد النوبة .
" إني لأراه يلبس التاج الأحمر ، ويستلم التاج الأبيض . ثم لا يبرح حتي يلبس علي التاجين ، ويجلس علي العرشين . وقد أظله علم الإلهين.
" فانعموا يا بني عصره بهذه السعادة التي أتيحت لكم! إن رجلا عظيما سليل بيت كريم ، قد نقش اسمه في سجل الخلود . أنظرو إلي الشريرين كيف يتوارون عن الأنظار ،وإلي الجبارين المعتدين كيف ذلت أعناقهم ، وخفت أصواتهم . وإلي الأسيويين الأجلاف كيف يقتلون ويمزقون! وإلي الليبيين اللؤماء كيف تذهب دورهم وأجسادهم طعاماً للنيران ..
" يا له من ملك عظيم استطاع أن يكر علي الأعداء بيمينه ، ويخضع الثوار بيساره . وقد أجلي الأعداء عن أرض الوطن بسطوه وبأسه . وجمع حوله القلوب النافرة بهيبته وعدله . وعلي جبينه اللامع ثعبان الملك . لا تكاد تبصره العيون حتي تستشعر الهيبة والتقوي .
" ولكنه لا يكتفي بقهر الأعداء وتمزيقهم ، بل يقيم في شرق الدلتا أسواراً وحصوناً ، لكي يرد بها وحوش الصحراء إذا حدثتهم أنفسهم مرة أخري بأن ينقضوا علي هذا البلد الآمن . فانظر إليه كيف يخدم عصره ، والعصور التي بعده . فاذا أراد الاسيويون بعد اليوم ماء يسقون به ماشيتهم ، فليلتمسوه التماساً ، في ذلة وخضوع كما كان دأبهم من قبل .
" وهكذا يعود الحق إلي نصابه ، ويزهق الباطل ، ويمحي من الأرض . لإن الذين يشهدون هذا كله ، ستمتليء نفوسهم سروراً وغبطة، وسيقبلون علي مليكهم العظيم لينالوا شرف خدمته، والائتمار بأمره.
" ولعلي - في ذلك الزمن البعيد - أن يذكرني ولي من الأولياء ، فيلقي علي جدثي سجلا من الماء ، ويلتمس الرحمة لروحي ، حين يري أني ما قلت إلا الحق ، ولم أنطق بغير الصدق "
هنالك يطرق " الروح الجميل " ملياً ، وهو يلتمس النور وسط الغياهب ، ثم يتناول قرطاساً وقلماً ، ويخط السطور الآتية :
" أيها القلب الجريح ! اندب هذه الأرض التي عليها درجت وفيها كنت تغدو وتروح ! اندب أرض (بسطة) التي عشت فيها، وعين شمس التي ولدت بها .. اندب هذه الرياض الفيحاء ، يوم تهب عليها ريح السموم ، تحمل أجلاف الأسيويين ، فينقضون علي كل قرية آمنة فينتزعون أمنها ورخاءها . ويسطون علي الفلاح في مزرعته ، فيختطفون منه ماشيته ، وهو يحرث بها أرضه .
" أيها القلب لا تهدأ ولا تسكن ، بل قم فاندب هذا المنظر المفجع ، الذي يطالعك أينما نظرت . إن البلاد قد شاع فيها الخراب والدمار . كأن العمران لم يقم بها يوماً . وكأن (رع) لم يخلق فيها شيئاً . بل كأنه لم يبدأ أعماله فيها بعد !
" لقد عم الهلاك الأرض كلها ، فلم يبق فيها شىء قائم . وليس هنالك من يعني بأمرها ، أو يتحدث ، أو يرثي لها ، حتي الدموع قد جفت فلم يعد أحد يسكب قطرة منها .
" عجباً لهذه الأرض كيف حالت عما عهدناه!
" والشمس كيف احتجبت خلف ستار كثيف من التراب والرماد!
" لقد جف الزرع فأصبح هشيماً تذره الرياح .
" وتطاير التراب حتي ملأ الفضاء كله . وأرسلت الشمس شعاعها الذهبي ، فحالت دونه حجب التراب والغبار المتاطير في السماء .
" حدقي يا عين في المستقبل ، واخترقي حجب الغيب ، لكي اتحدث بوضوح وجلاء عما سيأتي به الأيام .
" نهر مصر العظيم ما خطبه ؟ لقد غاص ماؤه ، وجف مجراه ! فالناس تعبره سعياً علي القدم .
" عبثاً يبحثون عن ماء يسيرون فيه سفنهم أو زوارقهم .
" لقد اختلطت الأرض ومجاري الأنهار والقنوات ، فلا تعرف أيها النهر ، وأيها الحقل ، وأيها الشاطىء.
" وأقبلت من الجنوب ريح الدبور ، فطاردت ريح الشمال ، حتي أزالتها من الوجود . طردتها من الأرض ، وطردتها من السماء . فوا أسفي علي ريح الشمال ، العليلة المنعشة ، التي تنشر الحياة ، وتبعث القوة .
" والطير قد هربت من الدلت ، وغادرت أرض المستنقعات ، وهي وطنها الذي تضع فيها بيضها ، وتربي فيه صغارها . اضطرت لأن تنزل في مساكن الناس ، فآوت إلي غير مأوي ، ولجأت إلي غير مأمن .
"وقد خرجت البرك ودمرت البطائح ، التي كانت تصاد فيها الأسماك ، والطيور البرية ، وخرجت من حولها الديار التي كانت تجفف فيها وتهيأ ، وتعد لتغذية الناس .
" ضاعت خيرات الأرض ، وحل الخوف والجوع ، لكي تمتليء بطون أولئك البدو الصعاليك ، الذين يجوسون خلال الديار.
" سطا الأسيويون الأجلاف من الشرق علي أرض مصر، وهي آمنة مطمئنة ، لا تخشي شراً ، ولا يتوقع أذي . فاذا الويل ينزل بساحتها فجأة والعذاب يغشي أولئك الآمنين الوداعين .
" وإذا منازلهم يسطي عليها إذا جن الليل ، ويختطف ما بها ، فكانت العيون لا تعرف النعاس طمعا ، لأنها تنتظر الويل أن يحل بها في أي لحظة .
" لكأني أري وحوش الصحراء أولئك ، وقد أكبوا علي الأنهار يكرعون ، ويوشك ماؤها أن يغيض تحت أفواههم .. ثم أراهم بعد ذلك يترامون علي الشواطيء ، دون أن يكون هنالك من يدفعهم أو يذودهم .
" شاع الاضطراب في القري والدساكر ، وتهدمت الحدود بين المقاطعات . وكثر السلب ، وانتشر النهب والعدون ، واغتصبت الحقول من أصحابها ، واعتدي القوي علي حق الضعيف . وامتلأت القلوب غيظاً وكمدا . وما يستطيع أحد أن يعرف ما خبيء له ثنايا الغيب .
" ألا إني أري الأرض الآن ماثلة أمامي تصيح بالويل والثبور ، وتندب أبناءها البررة ! لقد أحالهم الشقاء إلي وحوش ضارية . ها هم قد تقلدوا أسلحتهم لكي يكتسبوا قوتهم بالقتال والنضال ، واصطنعوا السهام من النحاس لكي يشتروا خبزهم بدمائهم .
" ولقد تري أفواهم مفتوحة كأنهم يضحكون ، ما هو إلا ضحك المريض الذي به الداء ، وأعوزه الدواء .
" أما الدموع فلم تلبث أن جمدت في العيون ، والمآقي جفت ، وجل الخطب عن أن يكون الدمع فيه مسعفا أو مخففا . اقد أصبح الموت نفسه شيئاً مألوفاً . وأينما نظرت أو توجهت ألفيته قائما بين يديك ، يحدق في وجهك ، ويكشر عن أنيابه المستطيلة الزرقاء .
" والقتل الغادر الحانث ، كامن في كل ركن وتحت كل حجر ، ووراء كل جدار . وكأني أري الصديق يغتال صديقه ، والأخ يفتك باخيه ، والابن - يا رباه ! بأبيه ...
" فظائع لم يعرف القطر لها شبيهاً في أي زمان!
" ولقد احتشدت البلاد بجموع من الشحاذين في أسمال بالية ، ووجوه جافة شاحبة ، كأنما انشقت عنهم المقابر . وماذا يشحذون ، وممن يسألون ، وقد أصبح الغني ذو الجاه فقيراً معدماً . بعد أن سلبوه ماله وأرضه ومتاعه ، وأعطوها لجلف من أولئك الأغراب ، النازحين ، وأينما ذهبت تري صاحب الثروة يتضور جوعاً والغريب يعيش وسط النعيم واليسار.
" وامتلأت الصدور حقداً وضغناً ، واشتد بالناس الضجر والغيظ المكبوت . حتي ما يطيق إنسان أن يسمع صوتاً ، ولا يحتمل أن توجه إليه كلمة . فلا يكاد اللفظ أن يغادر الشفتين حتي ترفع العصي ، وتستل المدي . وتشتعل الحفائظ.
" ومن العجائب أن تري الحكام وأولي الأمر قد ازداد عددهم أضعافاً مضاعفة ، بينما تتضاءل الأرض ، وتقل مساحة المنزرع منها . الحقل فقير النبات ، والضرائب كبيرة ضخمة . والحب قليل ، ولكن مكيال الجباة عظيم . وهم يملأونه حتى يفيض ويطفح.
" حيل بين الناس وبين الشمس المشرقة ، فهي في عالم وهم في عالم آخر . وبينهما التراب الكثيف ، تثيره العواصف من الأرض الجافة ، قد زال عنها النبت والشجر ، وما يقدر الناس أن يميزوا ظهراً من عصر لأن الأجسام ليس لها ظل . والأشعة الباهرة لا تقع علي جسم . علي أن الشمس ما برحت في جو السماء . تشرق كما كانت تشرق من قبل ، وتجري في السماء كما كانت تجري . ولكن دونها كل هذه الطبقات الكثيفة من الغبار والتراب ...
" أجل أيها الملك العادل صنفرو ، إن القطر سيغمره الشقاء من جميع أطرافه . والبلاد يشملها الحزن ، وتضنيها الآلام . وقد ساد الاضطراب ، وعمت الفوضي .. وقد أصبح العزيز ذليلا ، والوضيع كريماً . وطورد الموسرون من قصورهم حتي اعتصموا بالمقابر . وعين شمس وطني ومسقط رأسي قد زايلها العمران ، وباتت قفراً بلقعاً ..
فسبحانك اللهم ! كيف جاز للدمار أن يغتال أرضاً هي مهد الآ’لهة جميعاً؟
" ما هذا الذي أراه ؟ إن الغمة تنجلي ، والغبار ينجاب . والشمس تشرق . وهذا ملك عظيم مقبل من الجنوب ، إنه أميني ، ولدته في مصر العليا أم من بلاد النوبة .
" إني لأراه يلبس التاج الأحمر ، ويستلم التاج الأبيض . ثم لا يبرح حتي يلبس علي التاجين ، ويجلس علي العرشين . وقد أظله علم الإلهين.
" فانعموا يا بني عصره بهذه السعادة التي أتيحت لكم! إن رجلا عظيما سليل بيت كريم ، قد نقش اسمه في سجل الخلود . أنظرو إلي الشريرين كيف يتوارون عن الأنظار ،وإلي الجبارين المعتدين كيف ذلت أعناقهم ، وخفت أصواتهم . وإلي الأسيويين الأجلاف كيف يقتلون ويمزقون! وإلي الليبيين اللؤماء كيف تذهب دورهم وأجسادهم طعاماً للنيران ..
" يا له من ملك عظيم استطاع أن يكر علي الأعداء بيمينه ، ويخضع الثوار بيساره . وقد أجلي الأعداء عن أرض الوطن بسطوه وبأسه . وجمع حوله القلوب النافرة بهيبته وعدله . وعلي جبينه اللامع ثعبان الملك . لا تكاد تبصره العيون حتي تستشعر الهيبة والتقوي .
" ولكنه لا يكتفي بقهر الأعداء وتمزيقهم ، بل يقيم في شرق الدلتا أسواراً وحصوناً ، لكي يرد بها وحوش الصحراء إذا حدثتهم أنفسهم مرة أخري بأن ينقضوا علي هذا البلد الآمن . فانظر إليه كيف يخدم عصره ، والعصور التي بعده . فاذا أراد الاسيويون بعد اليوم ماء يسقون به ماشيتهم ، فليلتمسوه التماساً ، في ذلة وخضوع كما كان دأبهم من قبل .
" وهكذا يعود الحق إلي نصابه ، ويزهق الباطل ، ويمحي من الأرض . لإن الذين يشهدون هذا كله ، ستمتليء نفوسهم سروراً وغبطة، وسيقبلون علي مليكهم العظيم لينالوا شرف خدمته، والائتمار بأمره.
" ولعلي - في ذلك الزمن البعيد - أن يذكرني ولي من الأولياء ، فيلقي علي جدثي سجلا من الماء ، ويلتمس الرحمة لروحي ، حين يري أني ما قلت إلا الحق ، ولم أنطق بغير الصدق "
------------------------
" سنوحي " قصة مصرية ، تأليف :الدكتور محمد عوض محمد، سلسلة اقرأ،مطبعة المعارف،العدد 12، ديسمبر 1943.